أمير الذوق
03-23-2021, 01:17 AM
وقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآيات [الأنعام:151].
يقول الله تعالى لنبيه ورسوله محمدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلُوهُ بِآرَائِهِمْ وَتَسْوِيلِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، قُلْ لَهُمْ: تَعالَوْا أَيْ: هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَيْ: أَقُصُّ عَلَيْكُمْ وَأُخْبِرُكُمْ بِمَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، لَا تَخَرُّصًا، وَلَا ظَنًّا، بَلْ وَحْيًا مِنْهُ، وَأَمْرًا مِنْ عِنْدِهِ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَأَوْصَاكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ.
قلتُ: ابتدأ تعالى هذه الآيات المحكمات بتحريم الشِّرك والنَّهي عنه.
الشيخ: هذا قولٌ لبعض العلماء، والقول الثاني أن (لا) هنا زائدة، كما تُزاد في مواضع كثيرةٍ، والمعنى: أتل ما حرَّم ربكم عليكم: أن تُشركوا به شيئًا. فلا هنا صلة، وفي الآية الأخرى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [الحديد:29] أي: ليعلم أهلُ الكتاب.
فقد تأتي في الكلام زيادة وصلة لظهور المعنى، فإذا رُوعي هذا المعنى، وأنه صلة في الكلام، كما وقع في مواضع أخرى، فالمعنى واضح: حرَّم عليكم أن تُشركوا به شيئًا.
أما إذا بقيت (لا) على حالها فلهذا احتيج التَّقدير: وصاكم بأن لا تُشركوا به شيئًا، حذف تقديره: وصاكم، ولكن مهما أمكن غنى هذا الحذف فهو أولى، كلما صان الكلام عن الحذف واستقام أمر الكلام من دون حذفٍ فهو أولى عند أهل العلم وعند أهل العربية، وهذا مستقيم من دون حذفٍ: قل: تعالوا أتل ما حرَّم ربكم عليكم: أن تُشركوا به شيئًا. يعني "لا" صلة، قد تُزاد في مواضع لظهور المعنى في لغة العرب، ومن هذا قوله سبحانه في آخر سورة الحديد: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [الحديد: 29] أي: ليعلم أهل الكتاب.
فحرَّم علينا أن نُشرك به شيئًا، فشمِل ذلك كلَّ مُشْرَكٍ به.
الشيخ: فشَمِلَ أفصح، ويجوز شمَل بالفتح.
فشمِل ذلك كلَّ مُشْرَكٍ به، وكل مُشْرَكٍ فيه من أنواع العبادة، فإنَّ شيئًا من النَّكرات، فيعمّ جميع الأشياء، وما أباح تعالى لعباده أن يُشركوا به شيئًا؛ فإنَّ ذلك أظلم الظلم، وأقبح القبيح.
ولفظ (الشرك) يدل على أنَّ المشركين كانوا يعبدون اللّه، ولكن يُشركون به غيره من الأوثان والصَّالحين والأصنام؛ فكانت الدَّعوة واقعةً على ترك عبادة ما سوى اللّه، وإفراد اللّه بالعبادة.
الشيخ: ولا شكَّ أنَّ لهم أنواعًا من العبادة: يحجون ويتصدقون، يرجون فضل الله، في حال الشَّدائد يُخلصون له العبادة، فلهم أنواع من العبادة، ولكنَّهم لا يمحضونها لله، بل يفعلونها لله ويفعلون مع ذلك الشرك بغيره، والعبادة لغيره؛ فلهذا سمّوا مشركين؛ لكونهم شركوا في العبادة غير الله ، وإلا فهم لا شكَّ تقع لهم عبادات: بحجِّهم وصدقاتهم وغير هذا من الأعمال التي يعملونها لله ، وهكذا ما يفعلون وقت الشَّدائد من إخلاص العبادة لله وحده، كل هذا واقع.
فكل إنسانٍ يجد من ضميره ومن إحساسه شيئًا ..... عبادة مَن هو فوقه، ومَن هو أعظم منه، ومَن هو أعلى منه، والمتصرف فيه، وإن اختلفت عقائدهم في ذلك في هذا الإله، وهذا القاهر، وهذا يُسمى الله أو غير ذلك، ولكن كل إنسانٍ مفطور بأصل خلقته على أنَّ له ربًّا وخالقًا ومُدبِّرًا، لكن في معرفته وفي إخلاص العبادة أنواع لا تُحصى.
والرسل هي التي دلَّت على ذلك، فطر اللهُ العبادَ على أنَّ لها معبودًا وخالقًا ومُربِّيًا ومُدبِّرًا، وجاءت الرسلُ تُبين هذا الإله، وهذا المعبود، وهذا الخالق، وتُوضحه بأسمائه وصفاته، وتُوضح جهته التي يسأل منها ويُدعا، وأنها من جهة العلو ، فالرسل جاءت لإيضاح هذا الأمر، وبيان ذلك أعظم بيان.
وكانت (لا إله إلا الله) متضمنة لهذا المعنى، فدعاهم النبي ﷺ إلى الإقرار بها نطقًا وعملًا واعتقادًا؛ ولهذا إذا سُئلوا عمَّا يقول لهم قالوا: يقول: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، [النّساء:36]، واتركوا ما يقول آباؤكم، كما قاله أبو سفيان.
الشيخ: ولما سأله هرقل عمَّا يقوله محمد قال هذا الكلام، يقول: اعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم. وأمر بالصلاة، والصلة، والصدقة، والعفاف.
وقوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151].
قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برّهما وحفظهما وصيانتهما، وامتثال أمرهما، وإزالة الرِّق عنهما، وترك السَّلطنة عليهما، وإِحْسَانًا نُصب على المصدرية، وناصبه فعل مُضمر من لفظه.
الشيخ: تقديره يعني: وأحسنوا إحسانًا، فعل مُضمر، يعني: محذوف من لفظ الإحسان، تقديره: وأحسنوا.
تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانًا.
الشيخ: تقدم الكلام في الإحسان إلى الوالدين، وأنه كلام جامع يشمل أنواع الإحسان مثلما تقدم: من برٍّ، وصلةٍ، وإحسانٍ، وكفِّ أذى، وترك السلطنة عليهما، وطاعتهما في المعروف، وجميع ما يكون فيه خيرٌ لهما، وإحسانٌ لهما، وكفّ الشَّر عنهما، فإنها كلمة جامعة: البرّ.
وقوله: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151].
الشيخ: ولكن مثلما تقدم: طاعة ولاة الأمور، وطاعة الوالدين، وطاعة الأزواج، كل ذلك وما أشبه مقيد بالمعروف، كل ما جاء في النصوص من طاعة الوالدين، أو طاعة السلطان، أو طاعة أولي الأمر، أو طاعة الزوج، حتى الزوجات، أو ما أشبه ذلك كله مقيد بالمعروف: إنما الطاعة في المعروف كما قاله النبيُّ ﷺ، فليس لأحدٍ أن يُطاع في المعاصي مهما كان فضله، ومهما كانت منزلته، ومهما كان سلطانه، فلا يُطاع أحدٌ في معاصي الله جلَّ وعلا، وإنما الطاعة في المعروف، فيما ليس معصيةً لله .
الإملاق: الفقر، أي: لا تَئِدُوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكان منهم مَن يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر. ذكره القُرطبي.
وفي "الصَّحيحين" -البخاري ومسلم- عن ابن مسعودٍ قال: قلتُ: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تُزاني حليلة جارك، ثم تلا رسولُ الله ﷺ: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68].
الشيخ: وهذا الحديث يُبين أنَّ الشرك أعظم الذنوب، لما سُئل: أي الذنب أعظم؟ عليه الصلاة والسلام، قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، هذا يُبين أنَّ الشرك هو أعظم الذنوب، واتِّخاذ النِّدّ معناه: المثل والنَّظير، يقال: فلان ندُّ فلانٍ، يعني: نظيره ومثيله، فكل مَن اتَّخذ مع الله إلهًا يعبده في الدُّعاء والخوف، أو الرجاء، أو التوكل، أو الصلاة، أو ما أشبه ذلك؛ فقد جعله لله ندًّا، وإن لم يُسمِّه ندًّا، الله يقول: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، وذمَّ مَن يتَّخذ هذا بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].
فكل مَن اتَّخذ مخلوقًا مع الله: جمادًا، أو حيوانًا، أو ملكًا، أو نبيًّا، أو غير ذلك يدعوه مع الله، ويستغيث به، وينذر له، أو يسجد له، أو يخصّه بشيءٍ من العبادة، فإنه قد اتَّخذه بهذا ندًّا لله ، وجعله إلهًا مع الله، وإن سمَّاه بغير هذه الأسماء؛ بأن سمَّاه: سيدًا، أو سمَّاه: وليًّا، أو سمَّاه غير ذلك من الأسماء التي تُسميها الأمم، فالاختلاف بالأسماء لا يضرّ ولا يُغير المعنى؛ إذ الاعتبار بالمعاني، لا بالأسماء، كما سمَّى الناسُ هذه الآلهة، فهي آلهة مع الله، وعبادتها شرك بالله ، واتِّخاذ الأنداد معه ، فليُسموها ما سمّوها، لا يُغير المعنى أبدًا، وإنما الاعتبار بالحقائق والمعاني، لا بالألفاظ التي تتغير باصطلاحات الناس وعُرف الناس.
ولهذا في حديث أبي بكرة في "الصحيحين" يقول ﷺ: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، كررها ثلاثًا، ثم قال: الإشراك بالله، فجعله أكبر الكبائر، ثم جعل بعده العقوق، ثم شهادة الزور، فدلَّ ذلك على أنَّ الشرك هو أعظم الكبائر، ثم الكبائر بعد هذا تتفاوت: فالعقوق، وشهادة الزور، وقتل النفس بغير حقٍّ، والزنا، كلها من أكبر الكبائر، نعوذ بالله.
والمشركون كان فيهم مَن يقتل الأولاد جميعًا خشية الفقر والحاجة، وبعضهم يخصّ النساء فقط -البنت- خشية العار، خشية الفتنة بها بعد كبرها، فهذا كله منكر، وكله من خصال الجاهلية المذمومة التي جاء الإسلامُ بإبطالها والتحذير منها، فالله الرزاق لعباده، وهو سبحانه الذي عليه أرزاقهم جميعًا، وهو سبحانه مُعين لمن صدق في كفالة البنات وصيانة البنات، وهو المعين سبحانه لهم على مُهمتهم العظيمة في صيانة بناتهم، وحفظ بناتهم عمَّا حرم الله ، كما أن عليهم أن يحفظوا أولادهم أيضًا عمَّا حرم الله بكل جهدٍ، وبكل استطاعةٍ، والله يُعين الصَّادقين : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، أما قتلهم فلا حلّ له، بل هذا منكر وظلم وعدوان.
وأما أن تُزاني حليلة جارك فقال الشُّراح من أهل العلم: معنى ذلك أن يُراودها، وأن يسعى في إفسادها على زوجها، من المزاناة، وهو أشدّ من كونه يزني ثم يذهب ويتركها، فإنَّ الزنا بها مرة أسلم من مُزاناة بها واتّخاذها صاحبةً له وخدنًا له يفعل بها متى يشاء، فإنَّ في هذا إفسادها على زوجها، وذهاب عفَّتها، وذلك أكبر وأشدّ وأنكر في المصيبة، نعوذ بالله، فإذا كان ..... مع زوجة الجار، كان أيضًا أعظم في الإثم؛ لأنَّ حقَّ الجار الإحسان والمراعاة، وهذا عامله بالخيانة في أهله، وإفساد أهله عليه، نعوذ بالله.
وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].
قال ابنُ عطية: نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي، وظَهَرَ وبَطَنَ حالتان تستوفيان أقسام ما جعلتا له من الأشياء.
وفي التفسير المنسوب إلى أبي عليٍّ الطبري من الحنفية، وهو تفسير عظيم: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ أي: القبائح.
وعن ابن عباسٍ، والضَّحاك، والسّدي: أنَّ من الكفار مَن كان لا يرى بالزنا بأسًا إذا كان سرًّا.
الشيخ: ولا يُستغرب عليهم ذلك؛ فإنهم لا شرع عندهم، ولا إيمان لهم، ولا بصيرة؛ فلهذا يستحسنون ما يُناسب أهواءهم؛ ولهذا كان بعضُهم لا يرى به بأسًا سرًّا، كما في حالات كثيرة الآن من الكفرة، نعوذ بالله، لا يمنعه على أن لا يفضح وألا يتكلم فيه.
..................
وقيل: (الظاهر) ما بينك وبين الخلق، و(الباطن) ما بينك وبين الله. انتهى.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: لا أحدَ أغير من الله.
الشيخ: لأنَّ (لا) تعمل عمل (إنَّ)، و"أحد" اسمها.
لا أحدَ أغير من الله، من أجل ذلك حرَّم الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَمَا بَطَنَ.
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151].
قال ابنُ كثير: هذا مما نصَّ تعالى على النَّهي عنه تأكيدًا، وإلا فهو داخل في النَّهي عن الفواحش.
الشيخ: يعني: تخصيصًا بعد تعميم، فالقتل بغير حقٍّ من أقبح الفواحش، ولكن لما كان القتلُ عظيمًا نبَّه عليه مرة أخرى بخصوصه، في آيات كثيرات نهى عن القتل بخصوصه؛ لعظم الجريمة، ولما يترتب عليها من فسادٍ بين الأمم .....، فنصَّ عليها بعد التَّعميم؛ ليعلم الناسُ عظم الجريمة ويحذروها.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: لا يحل دمُ امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.
وعن ابن عمر مرفوعًا: مَنْ قتل مُعاهَدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا رواه البخاري.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151].
قال ابنُ عطية: ذلكم إشارة إلى هذه المحرَّمات، و(الوصية) الأمر المؤكد المقرر.
وقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تَرجٍّ بالإضافة إلينا، أي: مَن سمع هذه الوصية يُرجى وقوع أثر العقل بعدها.
قلتُ: هذا غير صحيح، والصواب أنَّ (لعل) هنا للتعليل، أي: أنَّ الله وصَّانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه، ونعمل بها، كما قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولًا تَعْقِلُونَ ثم تَذَكَّرُونَ ثم تَتَّقُونَ لأنهم إذا عقلوا تذكَّروا، فإذا تذكَّروا خافوا واتَّقوا المهالك.
الشيخ: هذا كلام حسن؛ لأنَّ التَّعقل وسيلة التَّذكر لما يجب، والتَّذكر وسيلة العمل؛ ولهذا جاء في الآيات هكذا: لعلكم تعقلون، ثم بعدها: لعلكم تذكرون، ثم بعدها لعلكم تتقون، فالتَّرجي من الله لا يليق به ؛ لأنه سبحانه لا يرجو أحدًا، ولا يخاف أحدًا، فهو المالك لعباده، القاهر فوق عباده، وبيده قلوبهم وتصرفاتهم جلَّ وعلا.
قول ابن عطية: ترجي بالنسبة إلينا لا يرد هذا: لعلكم تعقلون لعلكم إذا سمعتُم هذا الأمر والنَّهي وهذه الوصايا لعلكم أنتم تعملون بما قيل لكم، وتعقلون وصايا الله، ولكن السياق يأبى أنَّ هذا في حقِّ الله ، يعني: فعلنا وأوصينا لعلكم، أي: لتعقلوا، فالتَّعليل بالنسبة إلى الله جلَّ وعلا هو الواجب؛ ولهذا قال الشارحُ أنه خطأ، والصواب أنه للتعليل؛ لأنَّ السياق في وصف الله ، وفي بيان هذه الأشياء، ثم علله بقوله: لعلكم يعني: وصيناكم، وأمرناكم، ونهيناكم لتعقلوا هذا الأمر والنَّهي، لتعقلوا وتفهموا وتذكروا وتتَّقوا حسب سياق الآيات كلها، فهو راجع إلى الله، لا إلى العباد؛ ولهذا لا يُناسب في هذا المقام أن يُقال ..... للتَّرجي، ولكن للتَّعليل أمرته بكذا، لعله يعقل، يعني: ليعقل ويفهم، فالله أمرنا بهذه الأشياء ونهانا عن هذه الأشياء لنعقلها عنه ونفهمها، ثم نتذكر ونعمل بما فيه رضاه، وما فيه نجاتنا وسلامتنا.
يقول الله تعالى لنبيه ورسوله محمدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلُوهُ بِآرَائِهِمْ وَتَسْوِيلِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، قُلْ لَهُمْ: تَعالَوْا أَيْ: هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَيْ: أَقُصُّ عَلَيْكُمْ وَأُخْبِرُكُمْ بِمَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، لَا تَخَرُّصًا، وَلَا ظَنًّا، بَلْ وَحْيًا مِنْهُ، وَأَمْرًا مِنْ عِنْدِهِ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَأَوْصَاكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ.
قلتُ: ابتدأ تعالى هذه الآيات المحكمات بتحريم الشِّرك والنَّهي عنه.
الشيخ: هذا قولٌ لبعض العلماء، والقول الثاني أن (لا) هنا زائدة، كما تُزاد في مواضع كثيرةٍ، والمعنى: أتل ما حرَّم ربكم عليكم: أن تُشركوا به شيئًا. فلا هنا صلة، وفي الآية الأخرى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [الحديد:29] أي: ليعلم أهلُ الكتاب.
فقد تأتي في الكلام زيادة وصلة لظهور المعنى، فإذا رُوعي هذا المعنى، وأنه صلة في الكلام، كما وقع في مواضع أخرى، فالمعنى واضح: حرَّم عليكم أن تُشركوا به شيئًا.
أما إذا بقيت (لا) على حالها فلهذا احتيج التَّقدير: وصاكم بأن لا تُشركوا به شيئًا، حذف تقديره: وصاكم، ولكن مهما أمكن غنى هذا الحذف فهو أولى، كلما صان الكلام عن الحذف واستقام أمر الكلام من دون حذفٍ فهو أولى عند أهل العلم وعند أهل العربية، وهذا مستقيم من دون حذفٍ: قل: تعالوا أتل ما حرَّم ربكم عليكم: أن تُشركوا به شيئًا. يعني "لا" صلة، قد تُزاد في مواضع لظهور المعنى في لغة العرب، ومن هذا قوله سبحانه في آخر سورة الحديد: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [الحديد: 29] أي: ليعلم أهل الكتاب.
فحرَّم علينا أن نُشرك به شيئًا، فشمِل ذلك كلَّ مُشْرَكٍ به.
الشيخ: فشَمِلَ أفصح، ويجوز شمَل بالفتح.
فشمِل ذلك كلَّ مُشْرَكٍ به، وكل مُشْرَكٍ فيه من أنواع العبادة، فإنَّ شيئًا من النَّكرات، فيعمّ جميع الأشياء، وما أباح تعالى لعباده أن يُشركوا به شيئًا؛ فإنَّ ذلك أظلم الظلم، وأقبح القبيح.
ولفظ (الشرك) يدل على أنَّ المشركين كانوا يعبدون اللّه، ولكن يُشركون به غيره من الأوثان والصَّالحين والأصنام؛ فكانت الدَّعوة واقعةً على ترك عبادة ما سوى اللّه، وإفراد اللّه بالعبادة.
الشيخ: ولا شكَّ أنَّ لهم أنواعًا من العبادة: يحجون ويتصدقون، يرجون فضل الله، في حال الشَّدائد يُخلصون له العبادة، فلهم أنواع من العبادة، ولكنَّهم لا يمحضونها لله، بل يفعلونها لله ويفعلون مع ذلك الشرك بغيره، والعبادة لغيره؛ فلهذا سمّوا مشركين؛ لكونهم شركوا في العبادة غير الله ، وإلا فهم لا شكَّ تقع لهم عبادات: بحجِّهم وصدقاتهم وغير هذا من الأعمال التي يعملونها لله ، وهكذا ما يفعلون وقت الشَّدائد من إخلاص العبادة لله وحده، كل هذا واقع.
فكل إنسانٍ يجد من ضميره ومن إحساسه شيئًا ..... عبادة مَن هو فوقه، ومَن هو أعظم منه، ومَن هو أعلى منه، والمتصرف فيه، وإن اختلفت عقائدهم في ذلك في هذا الإله، وهذا القاهر، وهذا يُسمى الله أو غير ذلك، ولكن كل إنسانٍ مفطور بأصل خلقته على أنَّ له ربًّا وخالقًا ومُدبِّرًا، لكن في معرفته وفي إخلاص العبادة أنواع لا تُحصى.
والرسل هي التي دلَّت على ذلك، فطر اللهُ العبادَ على أنَّ لها معبودًا وخالقًا ومُربِّيًا ومُدبِّرًا، وجاءت الرسلُ تُبين هذا الإله، وهذا المعبود، وهذا الخالق، وتُوضحه بأسمائه وصفاته، وتُوضح جهته التي يسأل منها ويُدعا، وأنها من جهة العلو ، فالرسل جاءت لإيضاح هذا الأمر، وبيان ذلك أعظم بيان.
وكانت (لا إله إلا الله) متضمنة لهذا المعنى، فدعاهم النبي ﷺ إلى الإقرار بها نطقًا وعملًا واعتقادًا؛ ولهذا إذا سُئلوا عمَّا يقول لهم قالوا: يقول: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، [النّساء:36]، واتركوا ما يقول آباؤكم، كما قاله أبو سفيان.
الشيخ: ولما سأله هرقل عمَّا يقوله محمد قال هذا الكلام، يقول: اعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم. وأمر بالصلاة، والصلة، والصدقة، والعفاف.
وقوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151].
قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برّهما وحفظهما وصيانتهما، وامتثال أمرهما، وإزالة الرِّق عنهما، وترك السَّلطنة عليهما، وإِحْسَانًا نُصب على المصدرية، وناصبه فعل مُضمر من لفظه.
الشيخ: تقديره يعني: وأحسنوا إحسانًا، فعل مُضمر، يعني: محذوف من لفظ الإحسان، تقديره: وأحسنوا.
تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانًا.
الشيخ: تقدم الكلام في الإحسان إلى الوالدين، وأنه كلام جامع يشمل أنواع الإحسان مثلما تقدم: من برٍّ، وصلةٍ، وإحسانٍ، وكفِّ أذى، وترك السلطنة عليهما، وطاعتهما في المعروف، وجميع ما يكون فيه خيرٌ لهما، وإحسانٌ لهما، وكفّ الشَّر عنهما، فإنها كلمة جامعة: البرّ.
وقوله: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151].
الشيخ: ولكن مثلما تقدم: طاعة ولاة الأمور، وطاعة الوالدين، وطاعة الأزواج، كل ذلك وما أشبه مقيد بالمعروف، كل ما جاء في النصوص من طاعة الوالدين، أو طاعة السلطان، أو طاعة أولي الأمر، أو طاعة الزوج، حتى الزوجات، أو ما أشبه ذلك كله مقيد بالمعروف: إنما الطاعة في المعروف كما قاله النبيُّ ﷺ، فليس لأحدٍ أن يُطاع في المعاصي مهما كان فضله، ومهما كانت منزلته، ومهما كان سلطانه، فلا يُطاع أحدٌ في معاصي الله جلَّ وعلا، وإنما الطاعة في المعروف، فيما ليس معصيةً لله .
الإملاق: الفقر، أي: لا تَئِدُوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكان منهم مَن يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر. ذكره القُرطبي.
وفي "الصَّحيحين" -البخاري ومسلم- عن ابن مسعودٍ قال: قلتُ: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تُزاني حليلة جارك، ثم تلا رسولُ الله ﷺ: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68].
الشيخ: وهذا الحديث يُبين أنَّ الشرك أعظم الذنوب، لما سُئل: أي الذنب أعظم؟ عليه الصلاة والسلام، قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، هذا يُبين أنَّ الشرك هو أعظم الذنوب، واتِّخاذ النِّدّ معناه: المثل والنَّظير، يقال: فلان ندُّ فلانٍ، يعني: نظيره ومثيله، فكل مَن اتَّخذ مع الله إلهًا يعبده في الدُّعاء والخوف، أو الرجاء، أو التوكل، أو الصلاة، أو ما أشبه ذلك؛ فقد جعله لله ندًّا، وإن لم يُسمِّه ندًّا، الله يقول: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، وذمَّ مَن يتَّخذ هذا بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].
فكل مَن اتَّخذ مخلوقًا مع الله: جمادًا، أو حيوانًا، أو ملكًا، أو نبيًّا، أو غير ذلك يدعوه مع الله، ويستغيث به، وينذر له، أو يسجد له، أو يخصّه بشيءٍ من العبادة، فإنه قد اتَّخذه بهذا ندًّا لله ، وجعله إلهًا مع الله، وإن سمَّاه بغير هذه الأسماء؛ بأن سمَّاه: سيدًا، أو سمَّاه: وليًّا، أو سمَّاه غير ذلك من الأسماء التي تُسميها الأمم، فالاختلاف بالأسماء لا يضرّ ولا يُغير المعنى؛ إذ الاعتبار بالمعاني، لا بالأسماء، كما سمَّى الناسُ هذه الآلهة، فهي آلهة مع الله، وعبادتها شرك بالله ، واتِّخاذ الأنداد معه ، فليُسموها ما سمّوها، لا يُغير المعنى أبدًا، وإنما الاعتبار بالحقائق والمعاني، لا بالألفاظ التي تتغير باصطلاحات الناس وعُرف الناس.
ولهذا في حديث أبي بكرة في "الصحيحين" يقول ﷺ: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، كررها ثلاثًا، ثم قال: الإشراك بالله، فجعله أكبر الكبائر، ثم جعل بعده العقوق، ثم شهادة الزور، فدلَّ ذلك على أنَّ الشرك هو أعظم الكبائر، ثم الكبائر بعد هذا تتفاوت: فالعقوق، وشهادة الزور، وقتل النفس بغير حقٍّ، والزنا، كلها من أكبر الكبائر، نعوذ بالله.
والمشركون كان فيهم مَن يقتل الأولاد جميعًا خشية الفقر والحاجة، وبعضهم يخصّ النساء فقط -البنت- خشية العار، خشية الفتنة بها بعد كبرها، فهذا كله منكر، وكله من خصال الجاهلية المذمومة التي جاء الإسلامُ بإبطالها والتحذير منها، فالله الرزاق لعباده، وهو سبحانه الذي عليه أرزاقهم جميعًا، وهو سبحانه مُعين لمن صدق في كفالة البنات وصيانة البنات، وهو المعين سبحانه لهم على مُهمتهم العظيمة في صيانة بناتهم، وحفظ بناتهم عمَّا حرم الله ، كما أن عليهم أن يحفظوا أولادهم أيضًا عمَّا حرم الله بكل جهدٍ، وبكل استطاعةٍ، والله يُعين الصَّادقين : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، أما قتلهم فلا حلّ له، بل هذا منكر وظلم وعدوان.
وأما أن تُزاني حليلة جارك فقال الشُّراح من أهل العلم: معنى ذلك أن يُراودها، وأن يسعى في إفسادها على زوجها، من المزاناة، وهو أشدّ من كونه يزني ثم يذهب ويتركها، فإنَّ الزنا بها مرة أسلم من مُزاناة بها واتّخاذها صاحبةً له وخدنًا له يفعل بها متى يشاء، فإنَّ في هذا إفسادها على زوجها، وذهاب عفَّتها، وذلك أكبر وأشدّ وأنكر في المصيبة، نعوذ بالله، فإذا كان ..... مع زوجة الجار، كان أيضًا أعظم في الإثم؛ لأنَّ حقَّ الجار الإحسان والمراعاة، وهذا عامله بالخيانة في أهله، وإفساد أهله عليه، نعوذ بالله.
وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].
قال ابنُ عطية: نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي، وظَهَرَ وبَطَنَ حالتان تستوفيان أقسام ما جعلتا له من الأشياء.
وفي التفسير المنسوب إلى أبي عليٍّ الطبري من الحنفية، وهو تفسير عظيم: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ أي: القبائح.
وعن ابن عباسٍ، والضَّحاك، والسّدي: أنَّ من الكفار مَن كان لا يرى بالزنا بأسًا إذا كان سرًّا.
الشيخ: ولا يُستغرب عليهم ذلك؛ فإنهم لا شرع عندهم، ولا إيمان لهم، ولا بصيرة؛ فلهذا يستحسنون ما يُناسب أهواءهم؛ ولهذا كان بعضُهم لا يرى به بأسًا سرًّا، كما في حالات كثيرة الآن من الكفرة، نعوذ بالله، لا يمنعه على أن لا يفضح وألا يتكلم فيه.
..................
وقيل: (الظاهر) ما بينك وبين الخلق، و(الباطن) ما بينك وبين الله. انتهى.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: لا أحدَ أغير من الله.
الشيخ: لأنَّ (لا) تعمل عمل (إنَّ)، و"أحد" اسمها.
لا أحدَ أغير من الله، من أجل ذلك حرَّم الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَمَا بَطَنَ.
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151].
قال ابنُ كثير: هذا مما نصَّ تعالى على النَّهي عنه تأكيدًا، وإلا فهو داخل في النَّهي عن الفواحش.
الشيخ: يعني: تخصيصًا بعد تعميم، فالقتل بغير حقٍّ من أقبح الفواحش، ولكن لما كان القتلُ عظيمًا نبَّه عليه مرة أخرى بخصوصه، في آيات كثيرات نهى عن القتل بخصوصه؛ لعظم الجريمة، ولما يترتب عليها من فسادٍ بين الأمم .....، فنصَّ عليها بعد التَّعميم؛ ليعلم الناسُ عظم الجريمة ويحذروها.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: لا يحل دمُ امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.
وعن ابن عمر مرفوعًا: مَنْ قتل مُعاهَدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا رواه البخاري.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151].
قال ابنُ عطية: ذلكم إشارة إلى هذه المحرَّمات، و(الوصية) الأمر المؤكد المقرر.
وقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تَرجٍّ بالإضافة إلينا، أي: مَن سمع هذه الوصية يُرجى وقوع أثر العقل بعدها.
قلتُ: هذا غير صحيح، والصواب أنَّ (لعل) هنا للتعليل، أي: أنَّ الله وصَّانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه، ونعمل بها، كما قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولًا تَعْقِلُونَ ثم تَذَكَّرُونَ ثم تَتَّقُونَ لأنهم إذا عقلوا تذكَّروا، فإذا تذكَّروا خافوا واتَّقوا المهالك.
الشيخ: هذا كلام حسن؛ لأنَّ التَّعقل وسيلة التَّذكر لما يجب، والتَّذكر وسيلة العمل؛ ولهذا جاء في الآيات هكذا: لعلكم تعقلون، ثم بعدها: لعلكم تذكرون، ثم بعدها لعلكم تتقون، فالتَّرجي من الله لا يليق به ؛ لأنه سبحانه لا يرجو أحدًا، ولا يخاف أحدًا، فهو المالك لعباده، القاهر فوق عباده، وبيده قلوبهم وتصرفاتهم جلَّ وعلا.
قول ابن عطية: ترجي بالنسبة إلينا لا يرد هذا: لعلكم تعقلون لعلكم إذا سمعتُم هذا الأمر والنَّهي وهذه الوصايا لعلكم أنتم تعملون بما قيل لكم، وتعقلون وصايا الله، ولكن السياق يأبى أنَّ هذا في حقِّ الله ، يعني: فعلنا وأوصينا لعلكم، أي: لتعقلوا، فالتَّعليل بالنسبة إلى الله جلَّ وعلا هو الواجب؛ ولهذا قال الشارحُ أنه خطأ، والصواب أنه للتعليل؛ لأنَّ السياق في وصف الله ، وفي بيان هذه الأشياء، ثم علله بقوله: لعلكم يعني: وصيناكم، وأمرناكم، ونهيناكم لتعقلوا هذا الأمر والنَّهي، لتعقلوا وتفهموا وتذكروا وتتَّقوا حسب سياق الآيات كلها، فهو راجع إلى الله، لا إلى العباد؛ ولهذا لا يُناسب في هذا المقام أن يُقال ..... للتَّرجي، ولكن للتَّعليل أمرته بكذا، لعله يعقل، يعني: ليعقل ويفهم، فالله أمرنا بهذه الأشياء ونهانا عن هذه الأشياء لنعقلها عنه ونفهمها، ثم نتذكر ونعمل بما فيه رضاه، وما فيه نجاتنا وسلامتنا.