تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : العقوبات الخفية


عيسى العنزي
09-02-2021, 03:21 PM
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا
وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ
ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعدُ:
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ... ﴾ [النساء: 1]
أيَّها المؤمنون!
لِغايةِ العبوديةِ أوجدَ اللهُ - سبحانه - الثَّقَلين، وسخَّرَ لهم الكونَ وما حواه، قال تعالى-:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وجَعَلَ ذلك الكونَ متَّسِقًا
مع تلك الغايةِ؛ قيامًا بوظيفتِها التعبديةِ، وتذكيرًا بها، ودِلالةً على استحقاق الله لها، قال تعالى -:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ﴾ [الحج: 18]. ولتحقيقِ العبوديةِ سَاقَ - سبحانه - العبادَ بالوعدِ
لمن حقَّقَها، والوعيدِ لمن أخْفَرَها، وجَعَلَ العقوباتِ زاجرًا عن مخالفةِ تلك الغايةِ، ونوّعَ تلك العقوباتِ
طرائقَ قِدَدًا؛ دنيويةً وأخرويةً، حسيةً ومعنويةً، وكان أخطرَ تلك العقوباتِ العقوبةُ الخَفِيِّةُ التي لا تُرى
ولا يَشْعُرُ بها العاصي، ولا يُبْصرُ معها آثارَ ذنبِه؛ فَيَسْدُرُ في غيِّه، ولا يَلْوِي عنه
حتى يُفْضيَ به إلى هُوَّةٍ سحقيةٍ مِن الهلاكِ.
قال ابنُ القَيِّمِ: " فالذنبُ لا يخلو مِن عقوبةٍ ألبتةَ، ولكنْ لِجهلِ العبدِ لا يشعُرُ بما فيه مِن العقوبةِ
لأنه بمنزلةِ السكرانِ والمخدَّرِ والنائمِ الذي لا يشعرُ بالألمِ. فتَرَتُّبُ العقوباتِ على الذنوبِ كتَرَتُّبِ الإحراقِ
على النارِ، والكَسْرِ على الانكسارِ، والغرقِ على الماءِ، وفسادِ البدنِ على السمومِ، والأمراضِ
على الأسبابِ الجالبةِ لها. وقدْ تُقارِنُ المضرَّةُ الذنبَ وقد تتأخرُ عنه، إما يسيرًا وإما مدةً، كما يتأخرُ المرضُ
عن سببِه أنْ يُقارنَه. وكثيرًا ما يقعُ الغلطُ للعبدِ في هذا المقامِ ويذنبُ الذَّنْبَ فلا يَرى أثرَه عَقِبَه
ولا يدري أنه يعملُ عملَه على التدريجِ شيئًا فشيئًا، كما تعملُ السمومُ والأشياءُ الضارةُ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ.
فإنْ تدارَكَ العبدُ نفسَه بالأدويةِ والاستفراغِ والحِمْيةِ، وإلا فهو صائرٌ إلى الهلاكِ، هذا إذا كان ذنْبًا
واحدًا لم يَتَدَارَكْه بما يزيلُ أثرَه؛ فكيفَ بالذنْب على الذنْب كلَّ يومٍ وكلَّ ساعةٍ؟! واللهُ المستعانُ".
وقال ابنُ الجَوزيِّ: " ولَعمري، إنَّ أعظمَ العقوبةِ ألا يَدرِي بالعقوبةِ! ".
عبادَ اللهِ!
إنَّ أخطرَ عقوباتِ الذنْبِ الخَفِيِّةِ نسيانُ اللهِ عبدَه، وتَرْكُهُ دون مَدَدٍ ربانيٍّ أو ملائكيٍّ، بل يُخْلِي بينه
وبين نفسِه وشيطانِه وأعوانِه، وهنالك الهلاكُ الذي لا يُرجى معه نجاةٌ -كما قال ابنُ القيم-
قال اللهُ تعالى-: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19].
ومن آثار ذلك النسيانِ على العاصي - وهو مِن خَفِيِّ العقابِ - تزيينُ سوءِ عملِه في عينِه
وإمعانُه في ارتكابِ الخطايا، وإلْفَتُها، واستسهالُها، وتَفَتُّحُ أبوابِها له وتسهيلُها عليه، فيتسعُ نطاقُها
ويَخِفُّ وَقْعُ حيائِه منها لِيجاهرَ بها؛ فيزدادَ سوادُ مَن يُضِلُّهم حاملًا أوزارَهم مع وزرِه الذي أنْقَضَ ظهرَه
ويغيبُ عنه ذكرُ التوبةِ، وتنصرفُ نفسُه عن الطاعةِ، كما قال تعالى-:
﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾ [المائدة: 49]، ومِثْلُ هذا قَلَّ
أن يوفَّقَ للتوبةِ، وهو مِن عفوِ اللهِ بعيدٌ؛ وهذا –لَعَمْرُ اللهِ- عينُ الهلاكِ والخسارِ، قال النبيُّ
صلى الله عليه وسلم: " كلُّ أمتي مُعافَى إلا المجاهرينَ، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعملَ الرجلُ بالليلِ عملًا
ثم يُصْبِحُ وقد سترَه اللهُ عليه، فيقولُ: يا فلانُ، عَملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يسترُه ربُّه
ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سترَ اللهِ عنه "؛ رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
ومِن شديدِ عقابِ الذنوبِ الخفيِّ الطبعُ على القلبِ؛ فيَسْوَدُّ، ويَعمَى، ولا يبصرُ إلا ما يهوى
ويَغُورُ مِن قلبِه ماءُ الغيرةِ، وتَذْبُلُ فيه جذوةُ تعظيمِ الشعائرِ والحُرُماتِ؛ فيَسْهُلُ على الشيطانِ قيادُه، ويُسِيمه
مراتعَ العطبِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " تُعرَضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عُوُدًا عُوُدًا
فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتةُ سوداءُ، وأيُّ قلبٍ أَنْكَرها، نُكتَ فيه نكتةٌ بيضاءُ، حتى تصيرَ على قلبين
على أبيضَ مِثلِ الصَّفا[1]؛ فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامتِ السماواتُ والأرضُ، والآخرُ أسودُ مُرْبَادًّا[2]
كالكُوزِ[3]مُجَخِّيًا[4]لا يَعْرِفُ معروفًا، ولا يُنكرُ منكرًا، إلا ما أُشربَ مِن هواه "؛ رواه مسلمٌ.
أيها المسلمون!
وقسوةُ القلبِ مِن خطيرِ العقوبةِ الخفيةِ، قال مالكُ بنُ دينارٍ: " إنَّ للهِ عقوباتٍ في القلوبِ والأبدانِ:
ضَنْكٍ في المعيشةِ، ووَهَنٍ في العبادةِ، وما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظمَ مِن قسوةِ القلبِ "
والقسوةُ متى حلَّتْ في القلبِ مَنَعَتُه الادكارَ والاتعاظَ؛ فلا يتأثَّرُ بالآياتِ إنْ تُلِيَتْ، ولا يتعظُ
بالأحداثِ وإنْ وقعتْ عليه أو رآها عَيانًا؛ كما قال تعالى-:
﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ﴾ [الأنعام: 43]
فالاتعاظُ إنما يكونُ بنورِ الخشيةِ الذي ترحّلَ مِن القلبِ حين قسا، قال تعالى-: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ﴾ [الأعلى: 10].
وغالبًا ما تكونُ قسوةُ القلبِ حاملةً على الكِبْرِ وعدمِ الانقيادِ للحقِ؛ وذاك مِن أعظمِ موانعِ الانتفاعِ بالآياتِ
كما قال تعالى -: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146].
ومِن خَفيّ العقوبةِ أنَّ حُجُبَ الذنوبِ تُحِلُّ الوحشةَ في قلبِ العاصي؛ فيستشعرُها في علاقتِه مع ربِّه
ومع خَلْقِه، كما أنَّ حُجُبَ الذنوبِ مغناطيسٌ يَجْذِبُ إلى القلبِ شَتاتَ المخاوفِ والأوهامِ، كما قال تعالى-:
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ [آل عمران: 175]؛ خوفٌ من المرضِ، أو الرزقِ
أو العدوِّ، أو المستقبلِ، بل خوفٌ لا يُعْلَمُ سببُه.


[1] الصفا: الحجر الأملس.
[2] المرباد: المتكدِّر بين البياض والسواد.
[3] الكوز: الكأس.
[4] مجخيًا: مقلوبًا.


د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم.

imported_ريآن
09-02-2021, 04:44 PM
جزيتم الجنان
ورضى الرحيم الرحمن
أدام الله سعادتكم
ودمتم بــ طاعة الرحمن

ريان

SAMAR
09-02-2021, 04:54 PM
بارك الله فيك على الموضوع القيم
والمميز وفي انتظار جديدك الأروع
والمميز لك مني أجمل التحيات
وكل التوفيق لك يا رب

عواد الهران
09-02-2021, 06:46 PM
بارك الله فيك...

جزاك الله خير الجزاء,

ولك الشكر والامتنان,

والتميز بكمن بما نستفيد ونفيد,

وقمة التفاعل:

بالرد عليكم ,وتلقي ردودكم الكريمه.

قمر بغداد
09-02-2021, 07:33 PM
https://upload.3dlat.com/uploads/13843417758.gif

قصايد
09-02-2021, 09:25 PM
https://2.bp.blogspot.com/-PreHg1ql-5Y/VsCA2Oto44I/AAAAAAAAGNg/-WI2k7c-YOE/s1600/245729.gif

نزف القلم
09-02-2021, 10:19 PM
الف شكـــر لك
على الطرح الرائع
اثابك الله الاجروالثواب
وجزيت خيرا
وجعله في ميزان حسناتك
نزف القلم

just Dream
09-03-2021, 02:30 AM
جزاك الله خير

ترااانيم
09-03-2021, 04:02 AM
بوركت جهودك
وجعله بميزان حسناتك وسلمت وغنمت بالخير يمناك

الجريحه
09-03-2021, 04:37 AM
طرح قيم
بارك الله فيك
وجزاك الله كل خير
سلمت يمناك

حلا ليالي
09-03-2021, 11:24 AM
جزاك الله كل خير
وبارك الله فيك

رنيم الروح
09-04-2021, 08:55 PM
سلمت الأيادي على الطرح المفيد

بـہۣۗـتـہۣۙول ❥ ·´¯)
09-09-2021, 01:19 AM
موضوع في قمة الروعه
لطالما كانت مواضيعك متميزة
لا عدمنا التميز و روعة الاختيار
دمت لنا ودام تالقك الدائم

عابر سبيل
09-12-2021, 03:25 AM
عيسي العنزي

ما شاء الله .. تبارك الرحمن في علاه
أشكرك علي هذا الطرح الرائع كروعتك
بارك الله فيك واثابك بقدر كل هذا العطاء
ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة
وكتبه في ميزان حسناتك
تحياتي وتقديري لكم

https://upload.3dlat.com/uploads/136182293111.gif

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:44 PM
جزيتم الجنان
ورضى الرحيم الرحمن
أدام الله سعادتكم
ودمتم بــ طاعة الرحمن

ريان





شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:44 PM
بارك الله فيك على الموضوع القيم
والمميز وفي انتظار جديدك الأروع
والمميز لك مني أجمل التحيات
وكل التوفيق لك يا رب
شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:45 PM
بارك الله فيك...

جزاك الله خير الجزاء,

ولك الشكر والامتنان,

والتميز بكمن بما نستفيد ونفيد,

وقمة التفاعل:

بالرد عليكم ,وتلقي ردودكم الكريمه.
شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:45 PM
https://upload.3dlat.com/uploads/13843417758.gif
شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:45 PM
https://2.bp.blogspot.com/-PreHg1ql-5Y/VsCA2Oto44I/AAAAAAAAGNg/-WI2k7c-YOE/s1600/245729.gif
شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:46 PM
الف شكـــر لك
على الطرح الرائع
اثابك الله الاجروالثواب
وجزيت خيرا
وجعله في ميزان حسناتك
نزف القلم

شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:46 PM
جزاك الله خير
شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:46 PM
بوركت جهودك
وجعله بميزان حسناتك وسلمت وغنمت بالخير يمناك




شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:46 PM
طرح قيم
بارك الله فيك
وجزاك الله كل خير
سلمت يمناك
شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:47 PM
جزاك الله كل خير
وبارك الله فيك
شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:47 PM
سلمت الأيادي على الطرح المفيد
شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:47 PM
موضوع في قمة الروعه
لطالما كانت مواضيعك متميزة
لا عدمنا التميز و روعة الاختيار
دمت لنا ودام تالقك الدائم
شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

عيسى العنزي
09-15-2021, 08:48 PM
عيسي العنزي

ما شاء الله .. تبارك الرحمن في علاه
أشكرك علي هذا الطرح الرائع كروعتك
بارك الله فيك واثابك بقدر كل هذا العطاء
ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة
وكتبه في ميزان حسناتك
تحياتي وتقديري لكم

https://upload.3dlat.com/uploads/136182293111.gif


شكرا لك على المتابعه
يعطيك العافيه
احترامي

طلة سحابه
12-13-2021, 09:03 AM
http://a-3amry.com/up/uploads/163791518367121.gif (http://a-3amry.com/up/)

جزاك الله خيـر
بارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائما

http://a-3amry.com/up/uploads/163791518390962.gif (http://a-3amry.com/up/)

عيسى العنزي
12-14-2021, 05:28 PM
http://a-3amry.com/up/uploads/163791518367121.gif (http://a-3amry.com/up/)

جزاك الله خيـر
بارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائما

http://a-3amry.com/up/uploads/163791518390962.gif (http://a-3amry.com/up/)
شكرا لك على المتابعه والحضور
يعطيك العافيه
احترامي

إيليف
01-26-2022, 05:20 AM
يعافيك ربي على زاويتك الراقية
وشُكراً لطرحك المُميز وإختيارك الرائِع
عبق الجوري لِـ روحك https://www.a-al7b.com/vb/images/smilies/ff1%20(3).gif.