تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الإسراءُ مفهومًا وغَايَةً


نزف القلم
11-13-2021, 01:29 PM
الإسراء مصدر قياسي للفعل الرباعي (أسرى)، وأسرى فعل ثلاثي مزيد بالهمزة، و"سرى" يعني المشي ليلا، وهذه الهمزة تُفْهِمُ أنه أُسْرِيَ به، ولم يَسْرِ هو بنفسه، فهي تعني معنى التفضل، والنعمة، والاقتدار، والقوة، والحب، والحدب، يقول - تعالى -: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
بدأت السورة بالتسبيح، وهو التنزيه والتقديس؛ لأن هذا الحدث فوق قدرات البشر، ولا يقوم به إنسان، مهما أوتي من جبروت العلم، وسطوة الفهم، والمتأمِّل فيه يوقن بأنه حدَث الأحداث، ومعجزة المعجزات؛ إذ كيف يمكن لبشر أن يأخذ بشرا في رحلة أرضية من مكةَ المكرمةِ إلى بيت المقدس، هذه المسافات الطويلة، ثم يُعْرَجُ به إلى السماوات العُلا إلى سِدْرة المنتهَى، ويُرِيه كلَّ تلك الآيات الباهرات، ثم يعود به قبل أن يبرد موضع نومه، حتى إن العرب أنفسهم الذين يَعْرِفون بُعْدَ المسافة بين المسجدين استبعدوا ذلك، وقالوا: تأتي بيتَ المقدس الذي نضرب له أكباد الإبل شهرا، ثم تعود إلى دارك في هذه اللحظات القليلة الرمزية!
نعم، إن أول أهداف الإسراء بيانُ القدرة الإلهية، وإيضاحُ المعجزة الربانية، والهيمنة الحقيقية على كل مَنْ وما في الكون؛ لأن الله خلق الزمن فكيف يُحيط به الزمن، وخلق المكان فكيف يحويه مكانٌ، إن الله - تعالى - لا يعالج الأمور والأشياء كما نعالجها نحنُ، إنما كل شيء عنده يتأهب لسماع (كُنْ) فيكون في الحال ويحدث على الفور، وكل شيء عنده بمقدار، ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].
وأما ثاني تلك الغايات فهو التسلية والتسرية عن حبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو مفهوم من معنى الإسراء وهو التسرية والتخفيف، حيث بلغ بقريش معه حدا بعيدا من الظلم والتجنِّي والاضطرار إلى الخروج، وحيث أٌدْمِيَتْ قدماه الشريفتان، وهذا يتجهم، وذلك يحاول التصدي له وامتلاك دعوته، وثالث يساومه على تركها، حتى قال الرسول الكريم: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس برحمتك يا رب العالمين، أنت رب المستضعفين وأنتَ ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوٍّ ملكتَه أمري؟ إنْ لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسعُ لي، أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحلَّ بي سخطك، أو ينزلَ عليَّ غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بكَ "، دعاءُ الحبيب للحبيب، فيه إخباتٌ وخشوع، وخضوع ودموع، رقة متناهية، توكُّل صادق، يقينٌ كامل بنصرة الله - جل جلاله.
دعاء المضطر، الذي بذل كل ما لديه، واتخذ كلَّ الأسباب، فهذا الدعاء يُرْفَعُ بعد زيارته الطائفَ، واضطهاد أهل مكة له، فخرج بدعوته إلى حيث يستجاب لها، وحيث تَنْتَشِر، ومضى يمشي على قدميْه حتى فوجئ بهؤلاء الطائفيين يرمونه بالحجارة، ويُغْرُونَ به سفهاءَهم وصبيانهم - صلى الله عليه وسلم.
فتتنزل رحمة الله به في رحلة أرضية سماوية تخفف عنه، وتمسح على جبينه، وتكفكف دمعه، وتربط على كتفيه، وتشعره أنه ليس وحده في هذا الوجود، وإنما معه ربُّه لا ينساه، ومعه مولاه يرعاه، ويرعاه: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ [الإسراء: 1]، والباء هنا بمعنى "مع"، فالسُّرَى فيه مصاحبة ومَعِيَّة، واستخدام كلمة "عبده" لبيان التسامي، والرقي، فهو قدَّم أسباب الصحبة، وعوامل القرب، وهي الإخبات وإظهار التذلل لله، والعبودية لجلاله وقدسيته، وجاءت كلمة (ليلا) لتبين الجلال والتملِّي، والمهابة والقدسية، وأنها رغم عظمتها وكبر حجمها إلا أنها لم تأخذ إلا بعض وقت ولم تستغرق كل الليل إنما استغرقت وقتا يسيرا قليلا، تناسبه تنكير كلمة (ليلا)، والليل - كما هو معروف - مجمع الحنان، ووقت التسرية والأمان، حيث التأمل والتفكير، والتسبيح والنور، والطهر والنقاء، وحيث طِيبُ الهواء، ونقاء الأجواء، وحيث يبدو الصفاء، ويحل البهاء. ومن تلك الغايات كذلك إظهارُ أن السماء لا تتخلى عن الأرض أبدا، ما دام في الأرض مسبِّح عابد، ومُخْبِتٌ داع، تتنزل الرحمات والهبات، ويكون الإرشاد والعظمات والتساند والفيوضات والعطاءات، وهو درس كبير من دروس الإسراء، حتى يعمل الدعاة ولا يقلوا ويجتهدوا ولا يملوا. ومنها كذلك ضرورة أن يفهم الداعية أن الحركة مطلوبة؛ والدأب أساس في العمل الدعوي، وأنه إذا ما تصلب قوم تجاه داعية ما فعليه أن يرحل إلى مكان آخر يبلغ دعوة ربه، ويسعى لنشر دينه مهما كلفه ذلك من سفر ومشاق وابتلاء وقطع للأرزاق، ودماء وأشلاء؛ فإن طريق الدعاة طويل، وامتحانهم كبير، والمتصدون لهم كُثرُ: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الفرقان: 31] و﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112].
ومنها ذلك من متنزلات ﴿ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1] فهو يمضي من طهر إلى طهر، وينتقل من عفاف إلى عفاف لا يعرف إلا الحياة النقية، والأماكن الطاهرة، وفيها إعلان كذلك بوراثة المسجدين للمسلمين، فكل من المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد الأقصى بالقدس الشريف بفلسطين هما ملك للمسلمين شاء مَنْ شاء، وأبَى مَنْ أبَى.
ثم غاية كبرى لهذه الرحلة العظمى وهو بيان الآيات وشرح مستقبل الأمة وأخذ الحيطة والحذر من كل ما يقع، وكيفية الخروج منه، فهو رحلة تبصير وتنبيه ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1] رأى مرئيات كثيرة ولها دلالات عظيمة، منها ما يتعلق بأثر الكلمة ودورها في المجتمع، ومنها بيان قيمة الزمان في المجتمع الإنساني، ومنها خطورة الربا وآثاره المدمرة، ومنها الحرص على قدسية المرأة، وعدم الاختلاط الداعي إلى الزنا، وحياة الفحش والخَنَا، ومردود ذلك على المجتمع، ومنها التحذير من الدنيا وزينتها، ومنها خطورة الاغتياب، وعواقبه السيئة، ومنها بيان طبيعة الدين الإسلامي النقية، السهلة، السلسة، وتعاليمها الواضحة الهينة اللينة، ومنها مكانة المجاهدين، ومنزلة الجهاد عند الله - سبحانه -، ومنها بيان مكان الصلاة، وأنها معراج المؤمن إلى ربه، وصِلَة العبد بمولاه، ومنها ما يتعرض له الإسلام ودعاته من عواصفَ هُوجٍ، وأباطيلَ، وعراقيلَ، وابتلاءات واضطهاد من هنا وهناك، وما يحيط به، ويَحيك به من دسائس ومكر، وخطط ماكرة لطمسه، وقتل أنصاره، ووجوب الصبر، والتجمل، الكثير، والكثير من الرُّؤى والرموز، والدلالات، والمفاهيم.
إن الإسراء له مفاهيمُ، وتحيطه غاياتٌ، ويشتمل على مَعَانٍ ودلالات، ومُرادات، يجب علينا أن نعيشها، ونتأملها، ونعمل بمقتضاها حتى تكون لنا الريادة، والسيادة، والقيادة لهذا العالم التعيس، نريد أن نُنير الدنيا بالإسلام، ونأخذ بأيدي الخلق إلى رحاب الخالق، ونخرجهم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، والحمد لله رب العالمين، وكل عام وأنتم بخير.

د. جمال عبدالعزيز أحمد

imported_ريآن
11-13-2021, 01:34 PM
جزيتم الجنان
ورضى الرحيم الرحمن
أدام الله سعادتكم
ودمتم بــ طاعة الرحمن

ريان

حلا ليالي
11-13-2021, 02:33 PM
جزاك الله كل خير
وبارك الله فيك

SAMAR
11-13-2021, 02:39 PM
بارك الله فيك على الموضوع القيم
والمميز وفي انتظار جديدك الأروع
والمميز لك مني أجمل التحيات
وكل التوفيق لك يا رب

عواد الهران
11-13-2021, 03:27 PM
بارك الله فيك...

جزاك الله خير الجزاء,

ولك الشكر والامتنان,

والتميز بكمن بما نستفيد ونفيد,

وقمة التفاعل:

بالرد عليكم ,وتلقي ردودكم الكريمه.

ترااانيم
11-13-2021, 05:38 PM

طرح قيم .،
جزاك الله خيرااا على ماقدمت
وبارك فيك وفي جهدك الطيب .،
دمت بخير .،


أبو محـمد
11-13-2021, 05:47 PM
جزاكم الله خيراً ونفع بكم
واثابكم الفردوس الاعلى من الجنه
وجعل كل ما تقدمونه في موازين حسناتكم
لكم مني ارق المنى
وخالص التقدير والاحترام

عابر سبيل
11-13-2021, 06:14 PM
نزف القلم

ما شاء الله .. تبارك الرحمن في علاه
أشكرك علي هذا الطرح الرائع كروعتك
بارك الله فيك واثابك بقدر كل هذا العطاء
ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة
وكتبه في ميزان حسناتك
تحياتي وتقديري لكم
https://upload.3dlat.com/uploads/136182293111.gif

ترااانيم
11-13-2021, 06:24 PM

طرح قيم .،
جزاك الله خيرااا على ماقدمت
وبارك فيك وفي جهدك الطيب .،
دمت بخير .،


لِين
11-13-2021, 08:11 PM
_



جزآك الله خيراً
وجُعل م قدم في ميزآن حسنآتك https://www.lyaly-alomr.com/vb/images/smilies/ff1%20(8).png.

قمر بغداد
11-13-2021, 09:30 PM
جزآك الله خيراً

قصايد
11-13-2021, 10:13 PM
سلمت على هكذا إنفراد وَ تميُز
دام حضورك وَ عطائِك اللا محدود ..!

قصايد
11-13-2021, 10:13 PM
سلمت على هكذا إنفراد وَ تميُز
دام حضورك وَ عطائِك اللا محدود ..!

بـہۣۗـتـہۣۙول ❥ ·´¯)
11-13-2021, 10:54 PM
جزاك الله خيـر
بارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائما
وأن يجمعنا على الود والإخاء والمحبة
وأن يثبت الله أجرك
ونفعنا الله وإياك بما تقدمه

عيسى العنزي
11-14-2021, 06:07 PM
شكرا لك على الموضوع
يعطيك العافيه
احترامي

الدكتور على حسن
11-15-2021, 12:27 AM
كل الشكر وكل التقدير
لحضرتك
على روعة ما قدمت لنـــا
من موضوع غاية فى الروعة
والجمـال والاستفـادة القيمة
ربنا يسعدك ويبارك فيــــــــــــك
يااااااااااااارب
لكم خالص
تحياتى وتقديرى وحبى
الدكتـــور علـــى

إيليف
11-17-2021, 03:43 PM
تسلم الايـآدي على روعه طرحك
الله يعطيك الف عافيه يـآرب
بانتظـآر جــديدك القــآدم
آحتـرآمي لك