ابن الحته
01-16-2022, 04:39 PM
كلما كان الميت أعظم كانت العبرة به أعظم؛
ومن أجل ذلك وقف الناس وقفة اتعاظ بموت الجبابرة أمثال الإسكندر،
ودارا، وتيمورلنك، ونيرون، ونابليون؛ إذ رأوا أن جبروتهم انهار أمام الموت
كما ينهار السائل الفقير، والمسكين الحقير، فإذا الدنيا كلها، والجبروت كله،
والعظمة كلها فقاقيع هواء زال كلمح البصر، وكأن الحياة لعبة في الهواء،
أو كتابة على الماء.
الإسكندر لما مات اجتمع حول جثته جمع من الفلاسفة من تلاميذ أرسطو،
فقال عظيمهم:
ليقل كل منكم قولاً يكون للخاصة معزِّياً، وللعامة واعظاً.
فقام أحدهم وضرب بيده على التابوت وقال:
أيها المنطيق ما أخرسك، أيها العزيز ما أذلك، أيها القانص كيف وقعْت
موقع الصيد في الشرَك؟ مَن هذا الذي يقنصك؟
وقام ثان فقال: هذا القوي الذي أصبح اليوم ضعيفاً، والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلاً.
وقال ثالث: قد كانت سيوفك لا تجف، ونقمتك لا تُؤمَن، ومدائنك لا ترام،
وعطاياك لا تبرح، وضياؤك لا يخبو،فأصبح ضوؤك قد خمد، ونقمتك لا تخشى،
وعطاياك لا تُرجى، وسيوفك لا تُنْتَضى، ومدائنك لا تُمنع.
وقال رابع: هذا الذي كان للملوك قاهراً، أصبح اليوم للسوقة مقهوراً.
وقال خامس: قد كان صوتك مرهوباً، وكان مُلْكُك غالباً، فأصبح الصوت قد انقطع، والملك قد اتضع.
وقال سادس: كنتَ كحلمِ نائمٍ قد انقضى، أو كظل غمام انجلى.
وقال سابع: لئن كنتَ أمس لا يأمنك أحد، لقد أصبحت اليوم وما يخافك أحد.
وقال ثامن: هذه الدنيا الطويلة العريضة طُويت في ذراعين.
وقال تاسع: كفى للعامة أسوة بموت الملوك، وكفى الملوك عظة بموت العامة.
وقال عاشر: قد حرَّكَنَا الإسكندر بسكونه، وأنطقنا بصمته.
وهذه القصة إن شك فيها المؤرخ لا يشك في قيمتها الأديب والمعتبر.
عبرة القصة:
وفشت هذه القصة، وهذه الأقوال في أوساط الفلاسفة من المسلمين،
فلما مات عضد الدولة البُوَيْهي، وكان ما كان، ضخامةَ مُلْكٍ، وعزةَ جاهٍ،
وهو الذي لُقب بشاهنشاه، ولي المملكة وقد استولى الخراب عليها فعمَّرها، ونظَّم
المخبرين، فعنده أخبار العالم الإسلامي في سرعة البرق،
ورتَّب الجواسيس حتى خاف الرجل امرأته، والسيد خادمه، وهو شديد لا يلين،
وقاسٍ لا يرحم، ما أكثر من قَتَل وشرَّد لسبب يَسْتَوجِب ولغير سبب، حتى رووا عنه أنه
أولع بجارية شغلته بجمالها وحسن حديثها عن بعض شؤون الملك، فأغرقها حتى
لا يعود لمثلها، وزهت له الدنيا فاغتر بها، ووصف نفسه في شعره بأنه -
مالك الأملاك، غلاَّب القَدَر- (عياذا بالله) وقصده المتنبي فرأى ملكاً كبيراً،
ونعيماً عظيماً، وقدرة قادرة، وسطوة قاهرة، فصرخ:
وقد رأيتُ الملوك قاطبة وسِرْتُ حتى رأيتُ مولاها
ومَن مناياهم براحته يأمُـرُها فيـهـم وينهـاها
إلى أن يقول:
وإن له شرقَها ومغربها ونفسُـه تستقـل دنياها
تجمعت في فؤاده همم ملء فؤاد الزمان إحداها
ومن أجل ذلك وقف الناس وقفة اتعاظ بموت الجبابرة أمثال الإسكندر،
ودارا، وتيمورلنك، ونيرون، ونابليون؛ إذ رأوا أن جبروتهم انهار أمام الموت
كما ينهار السائل الفقير، والمسكين الحقير، فإذا الدنيا كلها، والجبروت كله،
والعظمة كلها فقاقيع هواء زال كلمح البصر، وكأن الحياة لعبة في الهواء،
أو كتابة على الماء.
الإسكندر لما مات اجتمع حول جثته جمع من الفلاسفة من تلاميذ أرسطو،
فقال عظيمهم:
ليقل كل منكم قولاً يكون للخاصة معزِّياً، وللعامة واعظاً.
فقام أحدهم وضرب بيده على التابوت وقال:
أيها المنطيق ما أخرسك، أيها العزيز ما أذلك، أيها القانص كيف وقعْت
موقع الصيد في الشرَك؟ مَن هذا الذي يقنصك؟
وقام ثان فقال: هذا القوي الذي أصبح اليوم ضعيفاً، والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلاً.
وقال ثالث: قد كانت سيوفك لا تجف، ونقمتك لا تُؤمَن، ومدائنك لا ترام،
وعطاياك لا تبرح، وضياؤك لا يخبو،فأصبح ضوؤك قد خمد، ونقمتك لا تخشى،
وعطاياك لا تُرجى، وسيوفك لا تُنْتَضى، ومدائنك لا تُمنع.
وقال رابع: هذا الذي كان للملوك قاهراً، أصبح اليوم للسوقة مقهوراً.
وقال خامس: قد كان صوتك مرهوباً، وكان مُلْكُك غالباً، فأصبح الصوت قد انقطع، والملك قد اتضع.
وقال سادس: كنتَ كحلمِ نائمٍ قد انقضى، أو كظل غمام انجلى.
وقال سابع: لئن كنتَ أمس لا يأمنك أحد، لقد أصبحت اليوم وما يخافك أحد.
وقال ثامن: هذه الدنيا الطويلة العريضة طُويت في ذراعين.
وقال تاسع: كفى للعامة أسوة بموت الملوك، وكفى الملوك عظة بموت العامة.
وقال عاشر: قد حرَّكَنَا الإسكندر بسكونه، وأنطقنا بصمته.
وهذه القصة إن شك فيها المؤرخ لا يشك في قيمتها الأديب والمعتبر.
عبرة القصة:
وفشت هذه القصة، وهذه الأقوال في أوساط الفلاسفة من المسلمين،
فلما مات عضد الدولة البُوَيْهي، وكان ما كان، ضخامةَ مُلْكٍ، وعزةَ جاهٍ،
وهو الذي لُقب بشاهنشاه، ولي المملكة وقد استولى الخراب عليها فعمَّرها، ونظَّم
المخبرين، فعنده أخبار العالم الإسلامي في سرعة البرق،
ورتَّب الجواسيس حتى خاف الرجل امرأته، والسيد خادمه، وهو شديد لا يلين،
وقاسٍ لا يرحم، ما أكثر من قَتَل وشرَّد لسبب يَسْتَوجِب ولغير سبب، حتى رووا عنه أنه
أولع بجارية شغلته بجمالها وحسن حديثها عن بعض شؤون الملك، فأغرقها حتى
لا يعود لمثلها، وزهت له الدنيا فاغتر بها، ووصف نفسه في شعره بأنه -
مالك الأملاك، غلاَّب القَدَر- (عياذا بالله) وقصده المتنبي فرأى ملكاً كبيراً،
ونعيماً عظيماً، وقدرة قادرة، وسطوة قاهرة، فصرخ:
وقد رأيتُ الملوك قاطبة وسِرْتُ حتى رأيتُ مولاها
ومَن مناياهم براحته يأمُـرُها فيـهـم وينهـاها
إلى أن يقول:
وإن له شرقَها ومغربها ونفسُـه تستقـل دنياها
تجمعت في فؤاده همم ملء فؤاد الزمان إحداها